العالم العربي في مهب التقسيم!
لم يعد تقسيم بلد عربي أو آخر مجرد شبح أو هاجس يلح على بعضنا، خصوصاً من يظنون أن ثمة مؤامرة كونية لتفكيك بلادنا. فقد أصبح التقسيم خطراً حقيقياً يبدو كما لو أن عاصفة تهب علينا. ولذلك لا يقتصر الخطر على بلد واحد أو اثنين، الأمر الذي ينبغي أن ننشغل به جميعاً سواء من يؤمنون بـ"نظرية المؤامرة" أو يرفضونها.
فهناك بلدان عربيان على الأقل يهددهما التقسيم. في العراق، تنامت منذ الغزو الأميركي عوامل التفكيك المجتمعي التي بدأت في ظل "جمهورية الخوف" وقسوة أجهزتها المتوحشة على الناس، فلاذ كثير منهم بطائفته أو جماعته العرقية أو عشيرته بحثاً عن"حضن" يعيد إليه شيئاً من الأمان.
وفي السودان، لم يحدث منذ توقيع اتفاق السلام بشأن أزمة الجنوب، أي تقدم باتجاه حل هذه الأزمة التي أنتجت حرباً أهلية ضروساً استمرت نحو 20 عاماً. وبدون معالجة العوامل التي خلقت هذه الأزمة، ستكون نتيجة الاستفتاء الذي سيجري عام 2011 لتقرير مصير الجنوب -وفقاً لاتفاق السلام- هي الانفصال.
ولذلك يبدو أن خطر هذا الانفصال يقترب كل يوم. وإذا حدث، فربما يكون بداية موجة تقسيم تغير شكل العالم العربي وتساهم في إعادة ترتيب المنطقة.
وإحدى مشكلاتنا في هذا المجال أننا تحدثنا كثيراً عن خطر التقسيم في عقود مضت حين لم يكن هذا الخطر حالاً. ولكن عندما أصبح التقسيم ماثلاً، فإذا بردود الفعل عليه تبدو أقل من حجم ونوع التهديد الذي يقترب. وقد يكون ذلك بسبب تناقص طاقتنا على المقاومة، أو بفعل شيوع الإحباط وربما اليأس، أو نتيجة أننا صرخنا كثيراً منبهين إلى "ذئب" لم يكن قد أتى، فلما جاء أو اقترب كانت قيمة التنبيه قد ضعفت.
والحال أن التقسيم لم يكن مهدِّداً للعالم العربي في أي وقت مضى بمقدار ما هو الآن. فإذا تجنب العراق التقسيم الذي يهدده حتى عام 2011، فقد تكون نتيجة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان هي فاتحة مرحلة التفكيك. وعندئذ قد لا ينجو العراق من مثل هذا المصير لأن حدة الأزمة الداخلية التي ترتبت على الغزو فعلت أكثر فعلها من خلال عملية تمزيق وتفتيت طائفي ومذهبي وعرقي وعشائري تنامت خلالها مصالح قوى عرقية وأخرى طائفية في التقسيم الذي قد لا يأخذ شكلاً سافراً على الأقل في مستهله وإنما قد يبدأ تحت شعار فيدرالية هي في حقيقتها أقرب إلى الكونفيدرالية التي لا سلطة للمركز في ظلها إلا ما تمنحه له الوحدات المستقلة.
وهذا هو جوهر المشروع الذي أقره مجلس الشيوخ الأميركي مؤخراً، والذي ينص على إقامة ثلاث وحدات فيدرالية بينما يفيد مضمونه أن المقصود أبعد من الفيدرالية وربما يقترب من الكونفيدرالية. وإذا كانت الإدارة الأميركية عارضت هذا المشروع فلأنها مازالت تأمل، أو بالأحرى تحلم، بمشروع "المحافظين الجدد" الأصلي الذي استهدف بناء "نظام ديمقراطي" في العراق يكون "نموذجاً" للمنطقة التي أرادوا إعادة تشكيلها.
ولذلك فهذا موقف غير قابل للاستمرار إلا في حالة تحويل الفشل الهائل الذي مني به المشروع الأميركي في العراق إلى نجاح. وهذا احتمال تتضاءل حظوظه في الواقع على نحو يمكن أن يجعل التقسيم بصيغة ما مخرجاً للأميركيين من "المستنقع" الذي غرقوا فيه. وربما يكون هذا هو خيار الإدارة القادمة. فإذا وصل رئيس (أو رئيسة) من "الحزب الديمقراطي" إلى البيت البيض، قد يكون هدفه الأساسي هو البحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه. وقد يجد في الصيغة الفيدرالية اسماً، والكونفيدرالية فعلاً، هذا المخرج الذي يتيح الزعم بأن الولايات المتحدة ليست مرغمة على الخروج مهزومة مغلوبة على أمرها فارة بباقي جنودها، وإنما هي تخرج بعد ترتيب الأوضاع في "العراق الجديد" الذي لا يمكن أن يكون في ظل هذا السيناريو، عراقاً واحداً أو العراق الذي عرفناه منذ عام 1920.
ويعني ذلك أن هذا التهديد، أي تقسيم بلاد عربية، يمكن أن يبدأ في العراق قبل أن يحل موعد الاستفتاء على جنوب السودان فيزيد احتمال أن تأتي نتيجة هذا الاستفتاء بتقسيم ثان.
غير أن خطر تقسيم العراق، على هذا النحو، قد ينطوي على تهديد أوسع نطاقاً للعالم العربي مقارنة بتقسيم السودان. فتقسيم العراق يمكن أن يغري، إذا حدث، بإجراءات أخرى لإعادة ترتيب المنطقة. وفي المقابل، قد تكون الرغبة في إعادة الترتيب الإقليمي دافعاً إضافياً لصانع القرار الأميركي باتجاه تقسيم العراق حتى إذا أدى ذلك إلى تدعيم النفوذ الإيراني في "دولة الجنوب والوسط" لأن هذا لا يعني أكثر من تكريس وضع قائم الآن. والأرجح، في هذه الحالة، أن تحاول واشنطن التغلب على معارضة تركيا الشرسة لقيام دولة كردية في شمال العراق عبر صيغة أبعد من النظام الفيدرالي، لكنها لا تصل إلى الكونفيدرالية التي تقوم بين دول مستقلة.
وفي ظل هذا السيناريو، الأقرب إلى العقل الأميركي الراهن، يظل العراق عنواناً للكيان نصف الفيدرالي -نصف الكونفيدرالي الذي يجمع الإقليمين الشيعي والكردي، بينما يُقتطع الإقليم الغربي ذو الأغلبية السنية. لكن هذا الإقليم قد لا يصبح دولة مستقلة، وإنما قد يكون مدخلاً لإعادة ترتيب أوسع نطاقاً عبر محاولة إقناع الأردن بضمه.
وقد يكون هناك من يرى أن هذا سيناريو بعيد. غير أنه في لحظات التحولات الإقليمية الكبيرة، ينبغي الاستعداد لمختلف السيناريوهات. واللحظة الراهنة في منطقتنا هي لحظة تحول كبير بالفعل تسعى إليه أميركا وإيران -كل في اتجاه – من خلال صدام قد يفجّر المنطقة، أو يتحول إلى صفقة لن تنجو هذه المنطقة في ظلها من التهديدات المتضمنة في أي ترتيب إقليمي جديد لا يشارك العرب فيه أو يمتلكون قدرة التأثير القوي عليه.
وفي مثل هذه اللحظة التي تمر بها المنطقة، لا يمكن القول إن ارتباط السيناريو الأرجح لمستقبل العراق، في حالة تقسيمه، بآخر لإعادة تشكيل المنطقة، يعتبر تفكيراً فيما هو بعيد أو فيما لا يمكن التفكير فيه Thinking the unthinkable. وإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نستعد أيضاً للتعامل مع تهديدات قد تبدو أبعد إذا بقينا نفكر بعقلية الحفاظ على الوضع القائم في منطقة لم يعد ممكناً الإبقاء عليها كما هي في ظل وجود قوتين مراجعتين جامحتين تعملان لتغييرها.
ولذلك لا يمكن لمن يفكر في الإعداد لمواجهة التهديدات الناجمة عن الارتباط بين تقسيم بلاد عربية وإعادة تشكيل المنطقة أن "ينام على حرير" بعد تقسيم الأمر الواقع للبقية الباقية من فلسطين إلى "كانتونين" في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ظل تكريس هذا التقسيم يوماً بعد يوم.
وفضلاً عن التهديد الفوري المباشر الذي يحدثه هذا التقسيم لقضية فلسطين، فهو ينطوي على تهديد آجل يحمل في طياته تصفية هذه القضية من خلال تراكم التباعد القائم الآن بين الضفة وغزة، على نحو قد يقود إلى حالة يسهل في ظلها إدماجهما في عمليات إعادة الترتيب الإقليمي، حين لا تجد "قيادة الضفة" أفقاً للمستقبل أمامها إلا الارتباط بالأردن في إطار اتحاد كونفيدرالي مثلاً.
وهكذا لم يعد خطر تقسيم بلاد عربية بعيداً، ولم يبق ممكناً التفكير فيه بمعزل عن احتمالات إعادة ترتيب المنطقة وتغيير بعض خرائطها، ولكن نتيجة فشل المشروع الأميركي وليس بسبب نجاحه، ومن خلال صراع بين الولايات المتحدة وإيران قد يصل إلى أعلى الذرى وقد يؤدي إلى صفقة قصيرة أو طويلة الأمد. ولذلك لا يصح أن نستهين بحجم ونوع التهديد المرتبط بتفكيك بلاد عربية، لأن تقسيم بعض دول المنطقة يحظى باهتمام متزايد في الجدل السياسي في الولايات المتحدة وبعض مراكز التفكير Think Tanks فيها. ولا يقتصر ذلك على بلاد عربية، حيث امتد الجدل في هذا المجال إلى باكستان أيضاً تأسيساً على افتراض يدافع عنه بعض الخبراء الأميركيين والباكستانيين في الولايات المتحدة مؤداه أن (باكستان ليست دولة وإنما وهم بريطاني أدى إلى فبركة دولة) على أساس أنها أقيمت عبر اتحاد بين خمس ولايات مسلمة كانت تحت سيطرة الهند في عصر الاحتلال البريطاني المديد، وأن القاسم المشترك بينها ديني لا غير، فضلاً عن روابط عشائرية تجمع ثلاثا منها.
ولا سبيل إلى مواجهة هذا الخطر إلا عبر حوار عربي صريح يستهدف التوافق على مشروع لمستقبل المنطقة يقوم على تأكيد استقلال هويتها واتجاهها وسياساتها عن الولايات المتحدة من دون قطيعة مع الغرب، على أن يؤسس هذا المشروع لحوار في العمق مع كل من إيران وتركيا ليس فقط بشأن العراق، ولكن بخصوص مستقبل المنطقة. ولا يقل أهمية عن ذلك تفعيل دور مجلس السلم والأمن العربي الذي اكتمل مؤخراً النصاب اللازم له، والسعي إلى تطويره ليشمل الجميع. ويبقى بعد ذلك العمل بشكل مخطط ومنظم للحيلولة دون تقسيم العراق، سواء من خلال الاتصال مع القوى العراقية المختلفة أو التحرك داخل الولايات المتحدة لشرح الثمن الفادح الذي قد يترتب على هذا التقسيم.